لعلّك صادفتَ من قبل مفهوم البناء الهرمي للكون في دراسات الفلك، حيث تدور الكواكب حول النجوم، وتدور هذه النجوم ضمن أنظمة شمسية، تنتظم بدورها داخل مجرّات، وتنتظم المجرّات في عناقيد وفوق العناقيد. ومثل هذا التنظيم الدقيق والمحكم لا يقتصر على مجال الفلك وحده، بل نجده ظاهرًا في مجالات متعددة من الحياة، ومن أبرزها علم الأحياء. وفي هذا المقال، أودّ أن أقرّب العدسة من جسم الإنسان، بوصفه نظامًا حيًّا متدرجًا إلى الخلية وما دونها.
أهدف من هذا المقال إلى أمرين: أولهما، التأمل في روعة تنظيم الله تعالى، والدقة البالغة التي لا تليق إلا بصنعه تعالى. والثاني، بيان مدى التعقيد الشديد الذي نراه في علم الأحياء. فعادةً ما يُخطئ بعض الناس حين أخبرهم أنني متخصص في الوراثة الطبية، إذ يظنون أنني ملمّ بكافة مستويات التنظيم الحيوي التي تعلو ذلك، وكم أتمنّى لو كان هذا صحيحًا، إلا أنه ليس كذلك. وغالبًا ما أقول لهم إنني لا علم لي بأي شيء يتجاوز الخلية، إلا أن هذه العبارة ليست دقيقة تمامًا. فكمختص في الوراثة البشرية، أو الوراثة الطبية، لا يقتصر قصور معرفتي على المستويات الأعلى من الخلية، بل إن إدراكي لما يجري داخل الخلية نفسها لا يزال محدودًا بدرجة كبيرة.
وغالبًا ما تُوصَف الخلية بأنها الوحدة الأساسية للكائنات الحية، ولكن الحقيقة أن لا شيء فيها بسيط. ولو كرّستُ وقتي وجهدي كليهما لفهم ما في الخلية من تعقيدات وتشعبات دقيقة، لما بلغت إلا القليل مما توصّل إليه العلم، فضلًا عمّا لم يُكشف بعد. وهذه من الأفكار المتكررة في مسيرتي العلمية، والتي علّمتني أنني كلما ازددتُ علمًا، ازددتُ إدراكًا لضآلة علمي. وهذا ما يعيدني دائمًا إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
جسم الإنسان
على المستوى الأعلى، نبدأ بالإنسان، وهو كائن حيّ يتكوّن من عدّة أجهزة تعمل معًا بطريقة منسّقة. هذه الأجهزة تسهم في وظائف متنوّعة مثل التنفس والتفكير والهضم والإحساس بالعالم المحيط. كل وظيفة من هذه تنشأ عن تنظيم داخلي دقيق لبُنى حيوية مترابطة.
الأعضاء
تتضمّن بنية الجسم أعضاءً متخصصة، يؤدي كلٌّ منها وظيفة محددة. فالقلب يضخ الدم، والرئتان تبادلان الغازات، والدماغ يفسّر الإشارات ويولّد الاستجابات. وكل عضو منها يُعدّ أعجوبة من التنسيق، يتألّف من أنواع متعدّدة من الأنسجة المتكاملة التي تعمل معًا لأداء مهمة واحدة بكفاءة عالية.
الأنسجة
تتكوّن الأعضاء من أنسجة، وهي مجموعات من خلايا متماثلة تؤدي وظائف متشابهة. مثلًا، الأنسجة العضلية تنقبض لتحريك الجسم، والأنسجة الطلائية تغطي السطوح وتتحكم فيما يدخل إليها ويخرج منها. عند هذا المستوى، تبدأ ملامح التركيب الخلوي في علم الأحياء بالظهور.
الخلايا: عتبة الحياة الجزيئية
الخلايا هي الوحدات الأساسية للحياة. وكل خلية نظام مستقل قادر على النمو، والاستجابة، والتكاثر. ولكن لا وجود لخلية بسيطة، حتى في أبسط صورها. فالخلية البشرية الواحدة تحتوي على تعقيد مذهل، وتضم العديد من المقصورات والأجهزة الجزيئية المتخصصة.
وتختلف الخلايا في أنواعها ووظائفها. فالعصبونات (Neurons) تنقل الإشارات الكهربائية، والخلايا العضلية تولّد القوة، وخلايا الجهاز المناعي تراقب التهديدات. ويُحدّد نوع كل خلية ليس بشكلها فحسب، بل بتنظيمها الداخلي وأدواتها الجزيئية.
العُضيّات
تحتوي الخلية على عُضيّات مثل النواة، والميتوكوندريا، وجهاز غولجي، والشبكة الإندوبلازمية، ولكل منها وظائف أساسية. وهذه العُضيّات ليست مجرد مقصورات مغلقة، بل مواقع ديناميكية تنشط فيها آلاف العمليات الحيوية المعقدة، حيث تُصنّع الجزيئات وتُنقل وتُحوّل.
المركّبات البروتينية (Protein complexes)
في مستوى ما دون العُضيّات، تنفّذ المركّبات البروتينية المهام الحيوية الأساسية. وهي مجموعات من بروتينات متعددة تعمل بانسجام لإنجاز عمليات دقيقة مثل نسخ الحمض النووي، وتعديل الحمض النووي الريبي، وتكوين الأغشية، أو تحليل المكونات التالفة. ويُعدّ تناغمها ودقتها أمرًا ضروريًا لاستمرار الحياة الخلوية.
البروتينات
تتكوّن البروتينات من سلاسل من الأحماض الأمينية، تطوى لتأخذ أشكالًا ثلاثية الأبعاد تحدّد وظائفها. إذ قد ترتبط بالحمض النووي، أو تسرّع التفاعلات الكيميائية، أو تشكّل البُنى الداعمة. وكل فعل داخل الخلية يعتمد على وجود البروتين المناسب في الزمان والمكان المناسبين.
التعليمات الوراثية (mRNA وDNA)
تُبنى البروتينات وفقًا لتعليمات يُوفّرها الحمض النووي الريبي الرسول (mRNA)، الذي يمثّل نسخة مؤقتة من الشفرة الوراثية المُخزّنة في الحمض النووي (DNA). ويتكوّن الحمض النووي من تتابعات من أربع قواعد كيميائية: الأدينين (A)، والثايمين (T)، والسيتوسين (C)، والجوانين (G)، وهي التي تُحدّد هوية البروتينات ووظائفها.
الجزيئات والذرات
في النهاية، فإن الحمض النووي وسائر الجزيئات الحيوية تتألّف من ذرات مرتبطة في تكوينات جزيئية دقيقة. وتُعد هذه الذرات أصغر الوحدات المستقرة في علم الأحياء، وتشمل عناصر كالكربون، والهيدروجين، والأكسجين، والنيتروجين، التي تتّحد بأشكال لا تُحصى لتجعل الحياة ممكنة.
من شكل الإنسان الكامل إلى أدق المستويات الذرية والجزيئية، يشكّل التنظيم الحيوي سيمفونية من البُنى المتداخلة. وكل طبقة منها تروي قصة من التعقيد والتناسق، تُظهر كيف تتكوّن الحياة، طبقةً بعد طبقة، ومقياسًا بعد مقياس. وكما قد يتبادر إلى الذهن، فإن أي خلل أو طفرة ضارّة في المستوى الجيني تنعكس على المستويات الأعلى. ولهذا، فإن دراسة الحمض النووي والمستوى الوراثي تُعدّ من الأمور الجوهرية في فهم الأمراض، واستشراف مسارها، ووضع خطط علاجها والتعامل معها.
شكرا على المعلومات القيمة